هل يتجرّع حزب الله كأس السمّ؟ عبد اللطيف السعدون
قبل أزيد من أربعة عقود، ومع عودة الخميني إلى طهران وإعلانه “الثورة الإسلامية”، وظهور صدّام حسين قائداً صاعداً في بغداد، ظهر واضحاً أنّ الأمور لم تعد تسير بين العراق وإيران في طريق سَلِس، وأنّ ثمّة إرهاصات مُنذِرة بعاصفة قد تنعكس آثارها على المنطقة كلّها، وليس على البلدَين الجارَين فقط. في تلك الأثناء، قدم تسعة رجال مجهولين من بيروت إلى طهران، وكانوا خليطاً من ناشطين في حركة أمل وحزب الدعوة، وحملوا معهم خيوطَ فِكَرٍ لم تكتمل بعد، وما جمعهم إعجابهم بشخصية الخميني، وانبهارهم بما يطرحه من فكرٍ، وطموحهم للسير على منهجه. وكان مجيئهم على خلفية حضور دورة تدريب عسكري يشرف عليها الحرس الثوري الإيراني. وعندما أكملوا التدريب توافقوا على إصدار بيان سيعرف فيما بعد بأنّه البيان الذي مهّد لتأسيس حزب الله.
في حينها، عرضوا بيانهم على الخميني، الذي منحهم بركته، وأعطاهم تفويضاً شرعياً للدعوة إلى “ولاية الفقيه” أساساً للعقيدة الإسلامية، التي سيتبنوّنها في مشروعهم الحركي، وكانت ساحة لبنان، في ذلك الوقت، مفتوحةً أمام الصراعات الفكرية والسياسية، وساعد هذا كلّه في انطلاق حزب الله علنياً، ونموّه السريع، وتموضعه داخل المجتمع اللبناني، وتحوّله فيما بعد ممثّلاً للطائفة الشيعية، التي كانت تشعر بنوع من الغبن والحرمان، وعلى وقع هذا الشعور استطاع الحزب أن يقترب من مؤسّسات الدولة، وأن يصطنع له دوراً عملياً من خلالها، وأنّ يُحقّق حضوراً مُعتبَراً في البرلمان، وفي المؤسّسات الاجتماعية والتربوية.
هكذا كانت النشأة الأولى لحزب الله، الذي لم ينظر إلى نفسه (منذ البداية) حزباً لبنانيّاً، بل كان يعتبر نفسه حزباً تابعاً لدولة ولاية الفقيه، وهو أمر لم يكتمه، إذ منحته رعايتها واهتمامها، كما وفّرت له ما يتيح له تغلغله داخل المجتمع اللبناني، وبثّ فكره عبر القنوات المتاحة، وتجييش أبناء الطائفة الشيعية خلف مبدأ ولاية الفقيه (وهذا هو الأكثر أهمّية)، وبالتالي وضعهم في خدمة المشروع العرقي الطائفي الذي تعمل عليه.
وبما أنّ الحريق، الذي نشب بين العراق وإيران، امتدّ حتّى لامس دولاً أخرى في الإقليم، فقد وجد حزب الله فرصته للتمدّد، ليس في لبنان وحدها، وإنّما في أكثر من بقعة في المنطقة، وتشاركت مع الرجال التسعة، الذين لم يبقَ منهم أحد اليوم في قيد الحياة، قيادات جديدة ذات خبرة ومهارة عملت في تحويله في زمن قصير منظومةً كاملةً سياسيةً واجتماعيةً وعسكريةً وأمنيةً وثقافيةً، وحاولت جعله بديلاً من الدولة في أمور كثيرة، وسعت لترسم له دوراً أساسياً في قرار السلم والحرب، مثل ذلك ما حدث عند مواجهة العدوان الصهيوني على لبنان عام 2006، ومع تصاعد نجم حسن نصر الله قائداً أوحداً للحزب وللمقاومة، وبروز الدور المحوري للجنرال قاسم سليماني في رعاية مشروع إيران الإقليمي اتيحت الفرصة للتنسيق بينهما، وكان هذا يعني بدء مرحلة جديدة لنفوذ دولة ولاية الفقيه، حصيلتها نمو أذرع مليشياوية في العراق وسورية واليمن، وتوسيع شبكة العمل الإيراني في المنطقة.
عند هذا المنعطف، شرع حزب الله يُمسك مفاتيح عدّةً، وبدا كما لو أنّه أصبح “دولة” كاملة، لها كيانها ومؤسّساتها وسياساتها وأذرعها الضاربة، لكنّ المفارقة في تلك اللحظة الفاصلة حصلت في منعطفٍ مختلفٍ عندما أطلقت حركة حماس “طوفان الأقصى”، وكان التوقّع أن تعمل إيران على تفعيل شعارها في “وحدة الساحات”، وأن تفي بوعودها بالدعم والمساندة، لكنّها على العكس شرعت تتودَّد إلى الأميركيين، وتتفاوض سرّاً، وتركت لحزب الله ولوكلائها أن يحاربوا نيابةً عنها، وعندما تصاعدت حرب الإبادة الإسرائيلية على أهل غزّة، ظلّت طهران ثابتةً على موقفها في الانتظار والترقّب، وعندما انتقلت الحرب إلى لبنان بدا جليّاً أنّ إيران لن تتدخّل، وتركت حزب الله وحيداً في حرب صعبة ومعقَّدة. وأخيراً عندما ارتكبت اسرائيل جريمتها باغتيال قيادات الحزب، وفي مُقدّمتهم حسن نصر الله، ظلّت طهران تماطل وتسوّف وتبرّر. وهكذا باعت ذراعها الرئيس، وتركت شعاراتها وراءها، واستسلمت فيما عيونها تركّزت في مصالحها المباشرة، وأمنها القومي، وطموحها للدخول في النادي النووي، وليكن من بعد ذلك الطوفان.
هنا لم يبقَ أمام حزب الله، الذي تُرك وحيداً وسط العاصفة بعدما اغتيل قائده ومعظم قياداته الفاعلة، سوى العمل لإعادة بناء نفسه من جديد، وربّما يبدو تخلّيه عن طابعه العسكري الذي عرف به، وتحوّله حزباً سياسياً، واحداً من السيناريوهات المطروحة أمام قيادته الجديدة، وقد يكون ذلك بالنسبة إليها بمثابة تجرّع كأس السمّ، وهو الخيار الأصعب.