فكر وفن

هيثم فتح الله: تأثيرات الفن التشكيلي على أسلوبي كانت واضحة، بنقل الفوتوغراف إلى لوحة فنية

يرى أن مسؤولية التوثيق بالدرجة الاولى تقع على عاتق المصور نفسه

 

 

 

حاوره/ علاء المفرجي

(المدى) بغداد
للباحث والفوتوغرافي والناشر هيثم فتح الله، ولد في الموصل عام 1955، نشأ وتربى في بيئة مطبعية، فوالده وجده كانا يعملان في مجال الطباعة منذ عام 1918. أنتقل مع عائلته إلى بغداد وأكمل هناك دراسته الثانوية والجامعية وتخرج من كلية العلوم قسم الفيزياء، لكنه ومنذ السبعينيات واصل العمل المطبعي مع والده الذي أدخل الأجهزة الحديثة إلى العراق لتطوير الطباعة.
بدأ التصوير الفوتوغرافي في سبعينيات القرن الماضي وعمل في الصحافة مصورا رياضيا رافق خلالها الفرق العراقية الى الخارج، وهو بصدد إصدار موسوعة مصورة عن الكرة العراقية.
اصدر في عام 1992 كتابا عن الصور الصحفية يحكي رحلة الصحافة والفوتوغراف بحساسية العدسة ودقتها، وله محاضرة حول “الصورة الصحفية ومهام المصور الصحفي”.
أقام خمسة معارض فوتوغرافية شخصية في بغداد وعمان وحصل على الجائزة الفضية لمجموعة الصور الملونة في مسابقة منظمة الصحفيين الدولية لعام 1986.
منذ عام 2002 وضمن مشروع ثقافي تبنته دار الأديب البغدادية يقوم الفنان وصاحب الدار هيثم فتح الله عزيزة بتوثيق وأرشفة أعمال وإبداعات العديد من المثقفين والفنانين التشكيليين لتكون منهلا ثقافيا للأجيال المقبلة. ويحلم بإصدار موسوعة الفن العراقي عن حياة وأعمال المثقفين والأدباء والفنانين العراقيين.
حدثنا عن نشأتك الأولى وطفولتك، عن المكان والأشخاص الذين اثروا بهيثم فتح الله، والتي دفعته للسير بطريق الفن والكتابة؟

البيئة التي عشت فيها في بيت والدي جعلتني اتعلق بكل ماله علاقة بالثقافة والفنون، فمنذ صغري ادركت عيني مكتبة عامرة في البيت تحوي مختلف الكتب والمجلات الادبية والفنية مع اشرطة موسيقى واسطوانات الغناء التراثية، تعرفت على اغاني ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب وتعلمت معنى الحب وكيف احب من كلمات هذه الاغاني، بالإضافة للرسومات واللوحات الفنية لكبار فناني العراق معلقة على جدران البيت، كل ذلك جعلني اتسأل واتفاعل مع كل ركن من اركان البيت الثقافي الذي نشأت فيه.فضّل والدي فتح الله عزيزة كان له الاثر الكبير في تربيتي الفنية والثقافية لما كان له علاقة وطيدة مع عدد كبير من ادباء كبار وشعراء وفناني النخبة العراقية. كل ذلك جعلني التصق بالفن والادب والثقافة منذ الصغر. دخلت عالم الطباعة وانا في سن العاشرة وتقاضيت اول اجر اسبوعي من عملي في مطبعة والدي (درهم) خمسون فلسا. مازالت نشوة ذلك الدرهم تدور في رأسي كلما عدت بالزمن الى الوراء.
(الأديب) ليس اسم مطبعة فقط، بل هي اسم يرتبط بمدنية بغداد، بالحداثة في مهنتها، في أثرها في الثقافة العراقية، هل لك أن تحدثنا عنها وعن تاريخها وأثرها الثقافي، وعن أبرز الاسماء التي مرت بها؟
-نقل والدي المطبعة الشرقية الحديثة من الموصل الى بغداد مطلع عام ١٩٦١ بعد حادث اغتيال جدي اسطيفان عزيزة في باب المطبعة، حيث كان المستهدف والدي ولكن الاقدار شاءت ان يتواجد جدي في مدخل المطبعة ليتم التعرض له وقتله بالحال. اطلق والدي على المطبعة اسم (الأديب البغدادية) للتميز بينها وبين مطبعة صغيرة في البصرة باسم الاديب. وفتحت ابوابها في شارع السعدون مجاور سينما النصر لتصبح ملتقى رجال السياسة والثقافة والادب والفن والموسيقى وكل ماله علاقة بالمجتمع المتمدن ببغداد. اعتنى والدي بموضوع النشر والطباعة باختياراته للعناوين المهمة والكتاب المرموقين ليقدم لهم مطبوع على مستوى عال من الاخراج الفني والطباعي، وهذا ما جعل الكثير من الكتاب والشعراء والفنانين ان يتقدموا بمسودات كتبهم لتنجز في الاديب البغدادية. وعلى الرغم من ضعف الامكانية الفنية والمادية آنذاك الا ان الاديب انجزت العديد من الكتب التي ستبقى خالدة الى اليوم لأهميتها مضمونا وشكلا.
أصبح مقر الاديب البغدادية ملتقى يومي لكل اطياف الثقافة العراقية من كتاب وشعراء وفنانين وسياسيين ورياضيين.
وانجزت الاديب البغدادية مجموعة كبيرة من سلسة دواوين الشعر العربي الحديث الصادرة عن وزارة الثقافة في مطلع السبعينات لشعراء كبار امثال بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي ورشدي العامل، وسعد يوسف وغيرهم. كما انجزنا المجموعة الكاملة لشعر الجواهري بخمسة اجزاء. ومن الانجازات المهمة في تاريخ مطبعة الاديب كتاب فيضانات بغداد في التاريخ بثلاثة اجزاء للدكتور احمد سوسة عام ١٩٦٣ وكتاب اخر ضخم بعنوان (الري والحضارة في وادي الرافدين) للدكتور سوسة ايضا. وانا شخصيا اعتبر طباعة واخراج كتاب (فن التصوير عند العرب) لمؤلفه ريتشارد ايتنك هاوزن وترجمة الدكتور عيسى سلمان وسليم طه التكريتي اهم منجز طباعي للأديب شكلا ومضمونا الذي طبع في نهاية السبعينيات من القرن الماضي لصالح مديرية الآثار العراقية.
المعروف ان مطبعة الاديب نقلت نشاطها الى عمان بعد الموصل وبغداد، لماذا؟ وهل هناك مكتبا او مقرا للأديب تمارس فيه نشاطها في بغداد؟
-انا شخصيا انتقلت الى عمان في مطلع التسعينات بسبب الوضع الاقتصادي الذي كان يمر به البلد ان ذاك. بالإضافة لظروفي الخاصة التي جعلتي اترك بغداد الى عمان وامارس نشاطي هناك، على امل ان يستتب الوضع الاقتصادي والسياسي في العراق لأتمكن من العودة ومزاولة النشاط الطباعي والفني بجانب والدي في الاديب البغدادية. لكن الظروف اتت عكس التوقعات وزادت سوء يوما بعد اخر خصوصا بعد الاحتلال الامريكي للعراق وتدمير البنية الثقافية والاجتماعية التي كان يتميز بها مجتمع الثقافة والفن في العراق. وأصبح العمل الطباعي شبه متوقف على مستوى القطاع الخاص. واصبحت المحسوبية والفساد الاداري في مؤسسات الدولة هي التي تتحكم في مصير عقود الطباعة بمختلف مسمياتها. عندها قرر والدي ترك بغداد ومطبعتها واتجه الي عمان، وقررت ان عام ٢٠٠٤ تأسيس مطبعة باسم الاديب في عمان استمرار لمسيرة الاديب البغدادية للحفاظ على الاسم التاريخي للمطبعة بعد ان تيقنت ان العودة للعمل في بغداد أصبح مستحيل. وان أفضل طريقة للحفاظ على اسم الاديب وإنتاجيتها الثقافية والفنية هو الاستمرار من مدينة عمان البلد الثاني الذي نعيش فيه، ليتم اغلاق كافة اقسام الاديب البغدادية والاستقرار في عمان حيث اقوم بطبع ونشر الكتب الادبية والفنية والثقافية.
عرفت في الوسط الإعلامي والثقافي كفوتوغرافي، وكصحفي رياضي، وكنت من ابرز الأسماء في هذا الميدان، لماذا بدأت مسيرتك في الصحافة الرياضية في مجال الفوتوغراف؟
قبل ان ادخل عالم التصوير الرياضي كنت امارس هواية كتابة المقالات الرياضية وارسلها بالبريد الى جريدة الملعب وانا طالب في كلية العلوم في العام ١٩٧٠. وكانت تنشر باسمي في صفحات الجريدة وبمعدل ثلاثة مقالات في الشهر. ولا أحد من كادر الجريدة يعرف من هو هيثم فتح الله، وهذا ما شجعني ان اتصل تلفونيا بالجريدة مساء كل يوم سبت وأكلم الصحفي يوسف جويدة واعطيه نتائج الدوري الانكليزي التي استقيها من المذياع، لأشاهدها صباح اليوم التالي على الصفحة الاولى للجريدة. بقيت على هذا المنوال الى ان استهواني التصوير عام ١٩٧٤.
البداية كانت عند مشاهدتي لصورة بائعة الروبة وهي تحمل على رأسها عشرة اطباق من اللبن بنسق واحد وفي وجهها علامات السعادة، فيما تخفي وراء عينيها مأسي الحياة وقسوتها، تلك الصورة التي ادهشتني وانا امر من امام ستوديو المصور الفنان حازم باك في شارع السعدون، حيث كانت معروضة بالحجم الكبير عند مدخل الاستوديو… هذا شدني وجعلني انتبه لكل صورة تمر امامي محاولا فهمها ودراسة موضوعها ٠٠٠ من هنا جاء المطلب بان اقتني كاميرا ولو صغيرة لإشباع رغبتي بالحصول على صور بها تعبير انساني وجمالي بنفس الوقت. الذي زاد من اهتمامي بالفوتوغراف هو دراسة التصوير الطباعي في اوربا، والذي يشابه التصوير الفوتوغرافي من الناحية العملية والكيميائية في الغرفة المظلمة لكنه يفتقر لأظهار جمالية اللقطة للمشاهد، وعليه بدأت بالدمج العلمي والكيميائي بين الاثنين مما زاد معرفتي بخفايا التصوير … هكذا هي بداياتي الفوتغرافية٠ اما دخولي لعالم التصوير الرياضي ربما كان بطريق الصدفة. فأثناء عملي بالمطبعة في انتاج كتاب عن العمران الحضري لمدينة بغداد لصالح وزارة الاسكان والتعمير والذي كان يشرف عليه الاستاذ ضياء عبد الرزاق حسن مدير الاعلام في الوزارة، شاهد بعض الصور بالأسود والابيض على طاولتي فاستمتع بها، وعرض علي ان أجرب التصوير الرياضي خصوصا انا لي ولع بالصحافة الرياضية وبالذات لعبة كرة القدم حيث كنت احضر المباريات بشكل منتظم. فجربت حظي اول مرة في تصوير مباراة كرة القدم بين نادي القوة الجوية والزوراء، فكانت المتعة ان اشاهد المباراة وانا على ارض الملعب بجانب حراس المرمى وامام الجمهور الغفير الذي يمتلئ به ملعب الشعب في مثل هذه المواجهات.
اكملت طباعة الصور ولم يجذب نظري أي شيء في تلك الصور. ووضعتها على جنب الطاولة ليتلقفها الاستاذ ضياء وينبهر بها ويدعوني للعمل معه في الصفحة الرياضية لجريدة الثورة التي كان يشرف عليها هو والصحفي قاسم العبيدي. فكانت البداية عام ١٩٩٧ واستمرت لغاية ١٩٩٨ حيث توقفت عن العمل في الصحافة الرياضية.
وبطبيعة الحال لم يكن المتلقي العراقي قبل مغادرتك بغداد الى عمان، يعرف انك ليس فوتوغرافيا حسب، بل كاتبا من طراز جيد، وناقدا حصيفا في مجال الفوتوغراف. متى بدا عندك هذا الميل، ولماذا لم تمارسه في الاعلام او الثقافة عندما كنت اسما لامعا فيهما.
-مارست الكتابة في بعض الاحيان من باب الهواية وحب العمل ففي عملي بالتصوير الرياضي اجريت العديد من المقابلات الصحفية والتحقيقات الرياضية خصوصا عندما كان يغيب المحرر الرياضي او عدم تواجده في الاحداث الرياضية المهمة. ففي احدى المرات وعند تواجدي في مطار بغداد لتصوير استقبال الوفد الكويتي المشارك في تصفيات موسكو ١٩٩٠. لاحظت عدم وجود اي صحفي لتغطية الحدث عندها اكملت التصوير واتجهت الى رئيس الوفد الشيخ فهد الصباح واجريت معه حوار قصير أصبح في اليوم التالي حديث المجتمع الرياضي بالكامل. ما اريد قوله ان المصور يجب ان يمتلك النباهة والاحساس الكامل سواء بأخذ الصورة او التفاعل مع الحدث وهذه هي مهنة الصحافة المهنية الحرة. وكذلك ان يقوم المصور بإيجاز تجربته العملية ويضع خبرته في متناول ابناء جيله للاستفادة منها كتجربة عملية واقعية، وهذا ما حدث معي عندما اصدرت عام ١٩٩١ كتاب الصورة الصحفية اوجزت فيه مجمل عملي في الصحافة بشكل عام والرياضية بشكل خاص. اما موضوع النقد الفوتوغرافي الذي امارسه اليوم لقد جاء بعد تراكم خبرة طويلة وممارسة عملية وقراءة بصرية للصور الفوتوغرافية هي التي جعلت من نظرتي للصورة تختلف عن عين المتلقي العادي وبالتالي تفكيك موضوع الصورة من الناحية الفكرية والتقنية. بعد ابتعادي عن التصوير الصحفي عدت بعد فترة الى الكتابة في صحيفة العرب اللندنية لمدة عام كامل بمواضيع رياضية تخص كرة القدم الاوروبية.
انت مصور جمع بين الثقافة التصويرية حيث شاركت في دورات وندوات فنية متخصصة بالطباعة والتصوير في ألمانيا وبلجيكا وإنكلترا وهولندا، وبين موهبة التصوير، هل ترى أن هذه الثقافة ضرورية للمصور، خاصة مع التطور المضطرد الذي يكاد يكون يوميا لهذا الفن؟
مصادر الوعي الفوتوغرافي متعددة واهم مصدر للمتابعة الفوتوغرافية بالنسبة لي كانت المجلات المتخصصة في عالم التصوير والتي كنت احصل عليها من الاشتراك الشهري والدوري. والتي تصدر في لندن بالإضافة الى دراستي الاكاديمية بالفيزياء وبالأخص الضوء وتأثيراته وايضا دراسة الكيمياء وكيفية تعاملي مع مواد غسيل الافلام واظهار الصور، واهم مصدر كان بمثابة مرجع لي هو حصولي على انسكلوبيديا التصوير الفوتوغرافي بأربعة عشر مجلد صادر عن شركة كوداك العالمية للتصوير. التي ساعدتني كثيرا في تطوير المنجز الفوتوغرافي لأعمالي لاحقا.
ان المصور عندما يمتلك كاميرا ذات مواصفات متقدمة وفكر وثقافة عالية ممزوجة بالتقنية العلمية يستطيع ان يقدم للمجتمع ثقافة بصرية وافكار صورية فيها من الرسائل والمواضيع التي تحفظ واقع المجتمع الذي يعيشه الفرد في زمانه.
أرى أن فلسفتك في التصوير الفوتوغرافي من خلال امتلاكك نظرة فوتوغرافية تجتمع فيها العناصر الإنسانية، من خلال العمل بتقنية عالية، والاحساس العالي بالظل والضوء، واستخدام التقنية الفنية والاحساس بالأهمية الجمالية للون. هل تعتبر ذلك كافيا لكي يحيط الفوتوغرافي بزوايا النظر؟ ام لك راي اخر؟
تأثيرات الفن التشكيلي على اسلوبي كانت واضحة من خلال محاولاتي لنقل الفوتوغراف من مهنة تصوير حرفية الى عمل ابداعي يمكن ان يأخذ حيزه مثل بقية الفنون التشكيلية والبصرية، بالإضافة الى تأثري باستخدام اللون ومزج الاحبار بمطبعة الأديب هي التي جعلتني مهوس باللون وتدرجاته. مما اضاف لي بعد اخر باستخدام اللون، ولكن من خلال التقنيات والبرمجيات الحديثة التي نعيشها اليوم. فلوحاتي الفتوغرافية اليوم تبتعد كل البعد عن مفهوم اللقطة الفوتوغرافية المباشرة التي تنحصر مهمتها بالتوثيق الزماني والمكاني. فلوحاتي المصورة اليوم تعبر عن السردية البصرية التي تتناغم مع الضوء واللون بهرمونية تختلف عن المنظور اللوني المعتاد. لقد تجاوزت مفهوم الصور الفتوغرافية العادية الى رؤيا بصرية فنية متجددة تتلاحم مع عنفوان اللون لتأخذ منحى التشكيل الفني بأساس المنظور البصري. عبر هذه اللوحات البصرية وبالتقنية العلمية ينتفض الموضوع ويخرج عن إطار الصورة التوثيقية ليتأطر من جديد ويعطي جمالية وثقافة بصرية تقرب التصوير الفوتوغرافي من الفنون التشكيلية التي تعنى بأساسيات اللون والشكل.
أتذكر أنك في ثمانينيات القرن المنصرم، اقمت معرضاً عن تجربة مشاركتك كمصور فوتوغرافي في اولمبياد سيئول، وكان برأيي انتقالة في مسيرة الفوتوغراف في العراق، لما تضمنه من جمالية عالية، واحساسا كبيرا في اللون. في هذا المعرض لم تكن الصورة الملتقطة صورة واقعية لأحداث الاولمبياد إن صح التعبير، بل لوحة تشكيلية خالصة، هل كانت هذه الصور موثقة للحدث، أم لوحة فوتوغرافية؟
كانت هذه مجموعة من اللوحات الفوتوغرافية بعيدة عن التوثيق الصوري لواقع الأحداث. وتم معالجتها بتقنيات الغرفة المظلمة عبر اسلوب مبسط يعتمد بالأساس على التكوين الاولي لموضوع الصورة الفوتوغرافية، ولكن برؤية بصرية ولونية مختلفة تنبثق من خلالها مفاهيم واحاسيس اللوحة الفنية. ان الولوج الى هذا الأفق الرحب في عالم التصوير الحديث، أتاح للصورة الفوتوغرافية أن تغدو لوحة تشكيلية يتجاوز اطارها توثيق الحدث لتصبح تكوين جميل ببعديها المنظوري والمتخيل. على الرغم من أنى صورت مجموعة كبيرة من الصور الرياضية المتميزة في ذلك الاولمبياد، وكان ممكن ان تشكل في حينها معرض كامل لهذه اللقطات الرياضية، الا أنى ارتأيت ان اشارك فقط باحدى الصور بمسابقة منظمة الصحفيين الدولية، لتفوز لاحقاً بالمدالية الفضية لمجموعة الصور الملونة عام ١٩٨٨.
انت صانع الصورة وليس ملتقطها كما يقول أنسيل آدامز، فالصورة لديك تدخل مختبرا غير المختبر المعروف، مختبر في رأس الفنان، تمارس فيه الصنعة من اجل صورة مبهرة. ما تعليقك؟
القفزة الكبيرة لي في منجزي الفوتوغرافي كانت بالمعرض الرابع (حالات بصرية) عام ١٩٩٢ في قاعة الاورفلي ببغداد. عندما قدمت صور تجريدية باللوان طبيعية حصلت عليها نتيجة خلط الفيزياء بالكيمياء للحصول على مجموعة لونية ناتجة من انكسار واستقطاب الضوء عند انعكاسه من بلورات الاملاح. وهي صور متناهية الصغر لا ترى بالعين المجردة قمت بتصويرها وتكبيرها، واقتربت في حينها من مفهوم صناعة الصورة الفوتوغرافية. قال عنها الكاتب والناقد الكبير (جبرا ابراهيم جبرا) بانها اعمال تقارب لوحات الفن التشكيلي للرسام الامريكي (جاكسن بولوك). هذا المنحى قادني بالمعارض اللاحقة الى ان أقدم مجموعة لوحات فوتوغرافية فيها ثقافة بصرية وفيها جمالية لونية مقتربة جدا من التشكيل الفني الذي يبتعد عن مفهوم الصورة الفوتوغرافية المباشرة، لأحصل على صور من جمالية الطبيعة مضاف اليها متغيرات لونية يعطيها رونق ويقربها من ريشة الرسام ٠
يقول احد الباحثين العالميين في التصوير الفوتوغرافي هناك واقع دقيق للغاية لدرجة أنه يصبح أكثر واقعية من الواقع.، هل اعتمدت ذلك في صورك؟
-ان المتغيرات المستحدثة في عالم التصوير اليوم تعزز ثوابت الصورة وتعطيها ابعاداً تكسبها معان اضافية ذاتية وليست بالضرورة موضوعية. لأن الصورة او اللوحة لا تخضع لضوابط محددة او قواعد مسلم بها. فهي كالجمال تتنوع مقاييسه، وتختلف ضوابطه، وغالباً ما يكون ذاتياً. كل هذا يمكن ان يحدث من خلال التقنيات الحديثة وتطور ادوات التصوير من طباعة ونسخ وكذلك استغلال التقنيات الخاصة بالكاميرا من سرعة وفتحة عدسة او استخدام المرشحات الفوتوغرافية كمادة اضافية لتجميل اللقطة الفوتوغرافية. وهذا ما تجده في أكثر الصور التي اعرضها اليوم وتحوي على منظور يمكن ان نطلق عليه ما بعد الواقعية.
هل ترى في الصورة العنصر الأهم في عملية التوثيق؟
-مسؤولية التوثيق بالدرجة الاولى تقع على عاتق المصور نفسه، فهو يجب المحافظة على اصول الصورة سواء كانت فلمية او رقمية مع توثيق التاريخ والموضوع برفقة الاصل لتبقى وثيقة صورية ومعلوماتية على مرور الزمن، وبالتالي نحفظ للأجيال القادمة ما خزنته ذاكرتنا الفوتوغرافية من احداث بدون لبس او تحريف. للأسف نحن في العراق نفتقد لموضوع الارشفة والتوثيق حتى في احسن الظروف، لقد صورت الكثير من المواضيع والصور الشخصية لكبار السياسيين ومثقفي البلد لصالح العديد من الصحف والمجلات والمؤسسات الثقافية وكانت هذه الصور تختفي من ارشيف هذه المؤسسات لتظهر لاحقا في بعض المجلات العربية بدون عناء. وهذا ما يفسر عدم وجود اسس توثيق رصينة في هذه الصحف والمؤسسات .
ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الفوتوغراف بعيدا عن التوثيق وحفظ التاريخ؟
في صورة حادث اغتيال الرئيس المصري انور السادات، قادت هذه الصورة المحققين الى مفتاح عملية الاغتيال عندما لاحظوا وجود كرسي وحيد موضوع بقصد امام المنصة لتسهيل عملية صعود المنفذ الى المنصة لتفيد المهمة. هنا الصورة لعبت دور بعيد عن مهمتها التوثيقية والخبرية عندما تم تحليلها ودراسة تفاصيلها. لهذا انصح كل من يحمل كاميرا ان يصور كل ما يقع امامه من مواضيع مهمة وغير مهمة ومن ثم العودة لدراستها واستخراج الجيد والنافع منها، خصوصا اليوم التصوير الرقمي يتيح لنا تصوير الالاف من الصور بدون اي كلفة مادية.
مع ما حققه نتاجك من الصورة الملونة من نجاح كبير إلا أني اراك مقلا في صورة (الأبيض والأسود).
قد تكون محقا بسؤالك لان اغلب لوحاتي الفوتوغرافية اليوم هي ملونة، لكن دعني اوضح لك بان بداياتي الفوتوغرافية كانت جميعها بالأسود والابيض واول معرض اقمته في قاعة الاورفلي للفنون عام ١٩٨٥ كانت جميع المصورات بالأسود والابيض وبحجم كبير جدا، وكانت المفاجأة للجميع بان شاهدو صور حياتية عن العراق دون ان يكون هناك اي صور رياضية كالتي اشتهرت بها في حينها. للأسود والابيض متعة خاصة بالتصوير والطباعة والتكبير لأنك انت من تتحكم بكل الوسائل والادوات لإنتاج الصورة النهائية.
سأضع امامك عددا من الأسماء الفوتوغرافية العراقية وأريد تعليقا بسطر عن منجزها؟
مراد الداغستاني: رجل الغرفة المظلمة، سيبقى ملك التصوير بالاسود والابيض في العراق على مدى العصور.
حازم باك: ثقافته الفوتوغرافية سبقت نتاجاته الصورية، متجدد بالتكنلوجيا وله بصمه بالتصوير الصحفي .. تعلمت منه الكثير.
امري سليم: مسلكي فوتوغرافي بقي معتمدا على ارثه الفوتوغرافي دون تجدد.
عبد اللطيف العاني: اصدرت له كتاب (مصور من العراق) يوثق فيه مرحلة زمنية من تاريخ المجتمع الثقافي والعمراني في العراق.
فؤاد شاكر: مبدع، ظلم نفسه بنفسه، أنتج كثيرا، وضاع نتاجه في خضم احداث العراق.
هادي النجار: أكاديمي وصاحب فكر ومبدأ، لعله من القلة الباقية من اللذين مارسوا الطباعة الملونة يدويا وحرفياً.
رحيم حسن: انسان قبل ان يكون فنان. كان أقرب المنافسين لي بالتصوير الرياضي، لديه حس مرهف وعين متميزة، فقدناه مبكراً. وفقدنا ارشيفه الفوتوغرافي.
عبد علي مناحي: مصور من جيل السبعينيات يحفظ له انجازاته في تصوير الحياة الاجتماعية في جنوب العراق، ادعو له بالصحة والسلامة.
احسان الجيزاني: للأسف لم اتعرف عليه شخصيا لكن لي اطلاع كامل على ما يقدمه من جهد وخلط بين السينما والفوتوغراف، اتمنى ان اشاهد اعماله الفوتوغرافية بالتفصيل لانها بالتأكيد فيها رؤية فنان لديه فكر واحساس بالإنسانية.
كفاح الامين : موثق ومورشف لا يكل ولا يمل … يحفظ له دوره في هذا الانجاز الرائع.

جريدة (المدى) البغدادية

زر الذهاب إلى الأعلى