مقالات رأي

واشنطن وموسكو: حروب المخيّلات والثعابين صبحي حديدي

 

ثمة قسط غير قليل من المغزى، وربما الكثير من المنافع المنهجية، في استذكار رأي حول الحرب الباردة سبق أن صاغته ماري كالدور، الباحثة المرموقة في شؤون الحروب والإمبراطوريات والمخططات العليا الجيوسياسية والعلاقات الدولية وسياسات التسلح: إنها «حرب المخيّلة» تفترض كالدور، لأنّ فريقَي هذه الحرب حرصا على إبقائها حبيسة المستوى الافتراضي منذ نشأتها أو بالأحرى تنشئتها؛ ولم يكونا، تالياً، بصدد التحضير لمواجهة عسكرية فعلية تردع الطرف الخصم. وأمّا على أصعدة عملية، فقد اكتفيا بترويج ــ وأحياناً ممارسة! ــ هذه الحرب في نطاق المخيّلة، عن طريق تضخيم الإحساس بأنها استمرار للحرب العالمية الثانية التي لم تنتهِ بعد، حتى إذا كانت قد وضعت أوزارها.
المرء الناظر إلى المشهد الراهن لهذه «الحرب» يمكن أن يبدأ من أكثر ميادينها ضجيجاً، وعطالة في آن معاً، أي مجلس الأمن الدولي، حيث التنابذ بحقّ النقض (الفيتو) يجعل موسكو تعطّل مشروع قرار بريطاني الأصل/ أمريكي الغمزة، يدعو لوقف إطلاق النار في السودان؛ ويدفع واشنطن إلى ردّ غير متأخر باستخدام حق النقض، إياه، ضدّ مشروع قرار بوقف فوري وغير مشروط ودائم لإطلاق النار والإفراج عن كل الرهائن. لا طائل من وراء البحث عن ذرائع الفريقين في تحويل هذه المنصة الأممية إلى مسرح دمى، يعرض كلّ ما تتيحه المخيّلة من ألعاب شدّ وجذب تارة، وتواطؤ وتآمر تارة أخرى.
في ميادين الحروب الفعلية، في أوكرانيا كما في قطاع غزّة والضفة الغربية ولبنان، يعطي الرئيس الأمريكي جو بايدن الضوء الأخضر لاستخدام أسلحة أمريكية ضدّ العمق الروسي؛ فيردّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتوقيع مرسوم يوسّع إمكانية استخدام السلاح النووي. في المقابل، تمارس الرادارات الروسية، المنتشرة في الأرض السورية، حقّ الصمت التام إزاء قاذفات إسرائيلية تسرح وتمرح في أجواء البلد، وتقصف على مبعد أمتار قليلة من نقاط انتشار روسية على الساحل السوري أو في تدمر أو حيث تشاء.
وإذْ يصغي المرء إلى هذا المسؤول الأمريكي الرفيع أو ذاك، يهجو الغاز الروسي وكأنّ هذه المادّة جيش جرّار وقوّة إمبريالية تسعى إلى قهر أطراف «العالم الحرّ» أوّلاً، ثمّ المعمورة بأسرها لاحقاً؛ أو حين يصغي إلى مسؤول روسي لا يقلّ علوّاً في المنصب، يهجو الولايات المتحدة لأنها «الرفيق الذئب الذي يعرف مَن يفترس، ويزدرد فريسته دون أن يصغي إلى أحد» حسب تعبير بوتين… فإنّ المرء لا يُلام إذا تمتم وهمهم وتساءل: أهذه فصول جديدة من حرب المخيّلات الباردة؟ وهل هذا استئناف لأواخر خطابات التصعيد بين طرفَي المنازلات الباردة السالفة، أم هو ذرّ للرماد في العيون وضحك على العقول؟
والحال أنّ العالم، عند «الكبار» هؤلاء بصفة خاصة، لا يلوح أنه يتغيّر إلا على مبدأ ملء الدنان العتيقة بنبيذ جديد، أو العكس؛ بحيث ينقلب الجديد إلى إعادة إنتاج للقديم، ويصبح التغيير دائرة مفرغة واسعة وغائمة. الأمر الذي يمنح المرء ذاته، المصغي إلى أهجيات الفريقَين على حدّ سواء، الحقّ في استئناف قديمِ النظرية ــ قبل راهنها، وربما من دون حاجة إلى الراهن! ــ حول الأكوان والعوالم والعباد والأمم والدول، التي تكتنف هذا الإحياء الجديد لتلك الخطابات العتيقة.

أهذه فصول جديدة من حرب المخيّلات الباردة؟ وهل هذا استئناف لأواخر خطابات التصعيد بين طرفَي المنازلات الباردة السالفة، أم هو ذرّ للرماد في العيون وضحك على العقول؟

بين ذلك القديم، مثلاً، ثمة نظرية «التفاحات الفاسدة» التي طرحها، ذات يوم غير بعيد، المؤرخ البريطاني الشهير بول كنيدي، المعروف ببصيرة ثاقبة في شؤون صعود وانحطاط القوى العظمى. وكان الرجل، ضمن مقالة أولى شهيرة طوّرها بعدئذ إلى كتاب، قد اعتبر أنّ المكسيك والبرازيل والجزائر ومصر وجنوب أفريقيا وتركيا والهند وباكستان وأندونيسيا هي الدول «التفاحات الفاسدة» التي ستُلحق الأذى بصناديق الاستراتيجيات الكبرى المرسومة للقرن القادم. أو هي قطع الدومينو التي قد تودي بكامل شروط اللعبة، كما كان سيقول رجال من نوع دوايت أيزنهاور أو دين أشيسن أو هنري كيسنجر أو زبغنيو بريجنسكي. أو «الدول المحورية» كما جادل الجغرافي والاستراتيجي البريطاني هالفورد ماكيندر في مطلع القرن؛ أو هي ما يحلو للمرء أن يسمّيه إذْ يقيم الرابطة بين اندثار القوى العظمى وعجز الاستراتيجيات الكبرى عن احتواء القطع الصغيرة في لعبة الدومينو إياها.
وليس الأمر أن كنيدي ناهض نظريات الدومينو القديمة في غمرة مقترحاته الجديدة، بل قد يكون العكس هو الصحيح. ذلك لأنّ التركيز على قطع الدومينو الجديدة، وبينها بعض كثير من القطع القديمة للتذكير، وبعضها ارتهن للاعب الأمريكي تارة وللاعب الروسي تارة أخرى؛ يمكن أن يخدم الاستراتيجيات الراهنة والمستقبلية للولايات المتحدة أكثر مما كانت عليه الحال أيام نظام القطبين والاستقطابين، خصوصاً وأنّ أحداً لا يبدو اليوم مُلزَماً بإثقال الخزينة الأمريكية لخدمة مشاريع مارشال من أيّ نوع، أو ملء الفراغ على قاعدة «الموت ولا الحمر».
الفارق بين الأمس واليوم هو أنّ التهديد الشيوعي لم يعد الشبح المرابط على الأسوار، المتأهب للانقضاض والتخريب إذا ما غفلت عين الحارس الأمريكي الساهر على أبواب الحرية والديمقراطية والأمن. التهديد، هذه المرّة، يأتي من الداخل، والداخل وحده تقريباً. يأتي ولا يتوقف عند حدود البلد المحوري، بل يتعداه إلى أكثر من جوار، بالضرورة الناجمة عن طبيعة انبثاقه من عوامل مكوّنة ليست داخلية على الدوام: الزيادات الهائلة في أعداد السكان، موجات الهجرة، التدهور البيئي، الصراعات الإثنية، انعدام الوزن الاقتصادي… وما إلى ذلك من ظاهرات تعجز السياسات السابقة عن معالجتها أو حتى تطويقها وتضييق نطاق انتشارها.
وكان كنيدي قد سرد المعايير والخصائص التي تسمح بتحديد الدولة المحورية، فأشار إلى عدد السكان، والموقع الجغرافي الهامّ، والإمكانات الاقتصادية، واحتمال ولادة الأسواق الكبرى، والحجم الفيزيائي… هذه جميعها عوامل كلاسيكية تساعد في تعريف الدولة المحورية، ولكن المعيار الأهمّ هو قدرة تلك الدولة على التأثير في الاستقرار الإقليمي والدولي، بحيث يكون انهيارها بمثابة تقويض لعدد كبير من المعادلات السياسية والاقتصادية والأمنية والإثنية والثقافية. وضمن هذا التعريف سارع كنيدي إلى التحذير من خطأين: اعتبار اللائحة مقتصرة على هذه الدول وحدها (إذ قد تتبدّل، أو بالأحرى ينبغي أن تتبدّل، اللائحة)؛ وانقلاب نظرية التفاحات الفاسدة إلى «مزمور» مقدّس شبيه بنظرية الدومينو (لأن منظورات هذه الدول المحورية يمكن أن تتقاطع وتتباين كثيراً، في واحد أو أكثر من المعايير المشتركة).
بعضها قد فعل لتوّه (الهند ومصر وتركيا والمكسيك مثلاً) وبعضها الآخر قد يفعل في أيّ وقت قريب (أندونيسيا والباكستان) وثمة مَن ينشقّ عن الركب في وجه طرفَيْ المعادلة معاً (جنوب أفريقيا، البرازيل)… الأمر الذي لا يبدو أنه عامل تعديل حاسم في بقاء حروب المخيلات محتدمة ساخنة، من جانب أوّل؛ أو يردع مجرم حرب مثل رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن اختراق المعادلات كافة، مع الراعي الأمريكي ومؤسسات القانون الدولي سواء بسواء، من جانب ثانٍ.
فإذا ارتفع صوت، محقّاً، يجادل بأنّ بوتين يقود نظاماً دكتاتورياً مقنّعاً، أو حتى مكشوفاً؛ أليس محقاً بدوره ذلك الصوت الآخر الذي يقتبس عزم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب ممارسة الدكتاتورية، مقنّعة أم مكشوفة؟ وتلك الحروب الأخرى، على النفوذ والموارد وتطويع الأنظمة في أربع رياح الأرض، أهي من جانبها حبيسة المخيّلة، أم فعلية شرهة دموية واجتياحية، تشقّ الأقاليم والقارّات مثل ثعابين تسعى؟

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

زر الذهاب إلى الأعلى