مقالات رأي

وشم في الذاكرة… في رحيل وهب روميّة رشا عمران

 

عن (العربي الجديد)

فيض من الذاكرة منعني من النوم ليلة أول من أمس، بعد قراءتي نبأ رحيل وهب رومية، الناقد الأدبي وأستاذ الأدب الجاهلي في قسم اللغة العربية في جامعة دمشق، وفي غير جامعة عربية، والعلّامة اللغوي الفذ، وصاحب كتاب “الرحلة في القصيدة الجاهلية”، وهو رسالته لنيل الدكتوراه في اللغة العربية من جامعة القاهرة، نالها في منتصف سبعينيّات القرن الماضي مع مرتبة الشرف، حين كانت جامعة القاهرة منارة العلم والمعرفة، تستقطب طلاب العِلم، لا سيّما في الأدب العربي، من العالم كلّه.

ويعد هذا الكتاب أحد أكثر المراجع البحثية العربية أهمية لكلّ المتخصّصين والمهتمّين بالأدب الجاهلي وبالشعر العربي عموماً، مثل كتابه الاستثنائي النقدي “الشعر والناقد… من التشكيل إلى الرؤيا” (سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2007)، الذي يتحدّث فيه عن النقد بوصفه جزءاً عضوياً من الثقافة وأحد تجليات الهوية، وعلى النقد أن يكون منفتحاً “فلا يتقوقع وينكفئ على ذاته ويعيد إنتاج هذه الذات. ولا يغترّب عنها فيخرج من ثقافته ويغدو ملحقاً هامشياً بثقافة الآخر”. والظنّ أن هذا الكتاب النقدي المهم لم يأخذ حقّه بين العرب، لتخصّصه، ولضعف الحركة النقدية الشعرية الرصينة في العالم العربي، خصوصاً نقد الشعر الحديث، الذي وقف عند أسماء بعينها، لم يستطع تجاوزها وتجاوز مدرستَي البنيوية والتفكيكية في النقد الشعري الحديث.

لم يكن حزني عند سماع خبر رحيل رومية فقط لأن رحيله خسارة للثقافة العربية، والسورية على وجه الخصوص، في هذا الوقت السوري العصيب، الذي تحتاج سورية فيه أصوات العقلاء والنُّخَب الثقافية والفكرية، بديلاً عن هذا الضجيج الغوغائي المسيطر الآن، والذي إن استمرّ فسوف يأخذ سورية إلى هاوية أخرى أشدّ هولاً من سابقتها؛ لكن، لأن ثمّة جانباً شخصياً في خبر هذا الرحيل فتح عندي جيباً كبيراً مغلقاً في الذاكرة، أغفلت وجوده ربّما مع بداية الثورة السورية عام 2011، كي أفسح فيها مكاناً لأحداثٍ جسيمة وتفاصيلَ يومية كانت تحتاج ذاكرة خالية من الماضي. لكن من قال إن الحاضر كان مفصولاً عن الماضي في تلك اللحظة السورية، التي طبعت ما تلاها كلّه؟

كان وهب رومية أحد الأصدقاء القلائل شبه اليوميين لعائلتي في دمشق، وطرطوس لاحقاً، رجلاً بالغ الوسامة والأناقة، ذا حضور طاغ ومُحبّ للحياة بشكل لا يخفى على أحد، يترافق ذلك كلّه بثقافة استثنائية وتواضع جمٍّ، ورصانة في العمل الأكاديمي يشهد عليها كلُّ من درس في أقسام اللغة العربية في دمشق، وغير عاصمة عربية، إضافة إلى دماثة في التعامل الشخصي، ولطف شديد، ومحبّة غامرة كنت أشعر فيها من طريقة تعامله مع الجميع. كنتُ أراقب هذه الصفات كلّها وأتعامل معها بوصفها الصورة التي يجب أن يكون عليها المثقّف السوري الحقيقي، والمخالفة لنمطية المثقّف المجتمعية. لكن الأكثر أهمية من ذلك كلّه كان فكر وهب رومية، الذي كان بالنسبة لي (مع والدي وقلائل ممّن عرفهم بيتنا في ذلك الوقت) يمثّل الفكر المنتمي في هُويَّته إلى الإنسانية قبل أي هُويَّة أخرى. أتذكر هنا حديثاً جرى ذات يوم عن فلّاح كان يعمل في أرض أحد أقاربنا في قريتنا، حين قال ذلك القريب عن العامل إنه يعيش من “أموالنا”، أذكر كيف أعطاه وهب رومية ووالدي درساً في الإنسانية بأننا “نحن نعيش من جهد هذا العامل وتعبه“.

كنتُ صغيرة يومها، لكن هذا الحديث، وغيره من أحاديث وحوارات في الإنسانية والثقافة والأحاسيس، ظلّت أمثولة لي في التعامل مع الآخرين، ومع جهدهم، وفي علاقتي مع الإنسانية والبشر، وفي علاقتي مع المُلكية والمال، وفي فهمي لحقيقة الثقافة وجوهرها وارتباطها الفعلي بالإنسان والإنسانية. لولا وجود أشخاص مثل هؤلاء في حياتي لربّما كنت شخصية أخرى، ولربّما كان موقفي السوري قد اختلف في اللحظة التي كان على السوريين الاختيار فيها بين الحقّ والباطل.

يفتح موت الآخرين، المؤثّرين في تواريخنا الشخصية، جيوب الذاكرة ويغلقها، لكن تأثيرهم يظهر في سلوكنا اليومي كما لو أنه وشم تركته مرحلة زمنية ما، لا يغلقها سوى موتنا الشخصي.

 

زر الذهاب إلى الأعلى