رؤية استباقية ضرغام الدباغ / برلين

البرامكة، هم من الفرس الذين أيدوا الثورة العباسية على الأمويين، ليس حباً بهم، بل كخطوة تقربهم من أغراضهم. وحقاً، فإن العباسيون حين صار لهم الملك والدولة / الإمبراطورية، احتضنوا البرامكة، وأغدقوا عليهم المال والأطيان والجاه والسلطان. فأستغل البرامكة ذلك فبالغوا في السلطان والطغيان، حتى شاع أمرهم في بغداد. وبطبيعة الحال، لا يخلو البيت من حكماء وعقلاء… فنصحوهم، وأشاروا عليهم، ولكن هوى الحكم والسلطان لا تردعه الحكمة والرؤية البعيدة الثاقبة، ومضوا سادرين في غيهم لا يردعهم رادع.
يحي البرمكي كان أحد هؤلاء العقلاء، الحكماء، بعيد الرؤية والنظر، وفي عهد الخليفة هارون الرشيد قربه منه وجعله من خاصته، وكاتبه ووزيره، وأغدق عليه. ومن تلك كان له بستان في أطراف بغداد، يختلف إليه الرشيد معتبرا البرامكة من أصدقائه المقربين،
وذات مرة، كان الرشيد في بستان فسيح جميل مطل على دجلة، ويتجول معه صديقة المقرب جعفر البرمكي، فشاهد ثمرة رمان وأراد قطفها ولكنه لم يطالها، فحاول جعفر مساعدة صديقة الخليفة، فلم ينجح، فما كان من الرشيد أن انحنى وطلب من جعفر أن يعتليه ويقطف الرمانة. ففعل جعفر ذلك دون تردد. وكان يحي البرمكي يرقب هذا المشهد، وفي استراحة ما بعد الغداء، جاء يحي البرمكي برقعة، كتب عليها نصاً” جعفر البرمكي يمثل قيمة خاصة لدى الخليفة حفظه الله، لا يثاب ولا يؤخذ بجريرة أحد “، وتقدم للرشيد برجاء أن يوقع على هذه الرقعة. دهش الرشيد لهذا الطلب الغريب، ولكن يحي البرمكي ألح بالرجاء، فما كان من الرشيد، إلا وأن وقع على هذا الطلب الغريب مندهشاً.
وحين حلت الغضبة على البرامكة الذين زادوا وبالغوا في طغيانهم، حلت عليهم غضبة الخليفة الرشيد، وحين جاء الحرس والعس ليأخذوا يحي البرمكي، أخرج لهم الرقعة ممهوراً عليها بخاتم الرشيد، فتراجع الحرس، حين شاهدوا الرقعة، وأخبروا الخليفة الرشيد بالواقعة، فأستقدم يحي البرمكي الذي قال له ” مولاي الخليفة، أنا يوم شاهدت جعفر يقبل أن يصعد على ظهرك علمت أن الغضب الشديد من بعد هذه الصداقة سيكون مريراً، ولا ألومك فالبرامكة طغوا، وصاروا يمثلون مشكلة في عاصمة ملكك بغداد، وغضبتك كانت متوقعة عندي، وغضبة الحليم بعد اللين ستكون قوية، لذلك أردت أن أنأى بنفسي عن شر مستطير . وسأبقى خادمكم المخلص “.
فأمر الرشيد بفكه وتقديره. وذهبت عبرة في استباق خطر داهم ممن لا يقدر اللين والمحبة.