الرئيسية || من نحن || || اتصل بنا

 

  

            

غزّة في النورماندي:

ما الذي تبقى من فكرة «الغرب»؟

صبحي حديدي

 

كما هو معروف، يُقصد بـ«يوم الإنزال» 6 حزيران (يونيو) 1944، ذلك النهار الذي شهد هبوط عشرات الآلاف من مقاتلي الحلفاء على شواطئ النورماندي الفرنسية، لتوجيه ضربة قاصمة شبه ختامية للمشروع النازي في أوروبا. وتُنفى، كما بات شائعاً أيضاً، حقيقة أخرى دامية مقترنة بهذا اليوم، تفيد بسقوط 50 إلى 70 ألف مدني جراء قصف الحلفاء للمنطقة؛ الأمر الذي يضطر الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون إلى استذكاره، ليس لأنّ غالبية الضحايا هؤلاء كانوا من مواطنيه فحسب، بل كذلك لأنّ انتخابات البرلمان الأوروبي تحلّ بعد 3 أيام، وتحالف ماكرون في وضع مزرٍ مشين طبقاً لاستطلاعات الرأي.
وفي إحياء الذكرى الـ80 لذلك الإنزال، يتقاطر زعماء «الغرب» (وتلك مفردة لم يسبق أن هزلت أركانها الدلالية كما هي حالها اليوم) وكبيرهم يظلّ الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ مع جديد يخالف احتفالات الذكرى الـ70، هو استبعاد روسيا من الحفل، رغم أنّ شعوب الاتحاد السوفييتي سددت نحو 27 مليون ضحية ثمناً لدحر الرايخ الثالث. وليس هذا التفصيل مفاجئاً أو طارئاً على علاقات «الغرب» إياه مع الاتحاد السوفييتي سابقاً، وروسيا اللاحقة والراهنة؛ إذْ أنّ أعراف النفاق الجيو ــ سياسي الأوروــ أمريكي أتاحت ذات يوم مشاركة موسكو في واحدة من قمم الحلف الأطلسي.
ولعلّ التفصيل الأكثر مغزى إنما يكمن في حقيقة أنّ ثمانية عقود انصرمت على وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، من دون أن تتوقف أوروبا عن إشعال الحروب الداخلية، التي تكفلت بإعادة إدخال الوجود العسكري الأمريكي إلى قلب القارة هنا وهناك، كما أعادت إنتاج شروط أكثر تهديداً للسلام العالمي عبر بوابات الحلف الأطلسي المختلفة. وفي عمق هذا التفصيل، وليس البتة على هوامشه كما قد يلوح، ثمة ورطة «الغرب» إياه إزاء حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، من جوانب عسكرية وتسليحية ومالية وأخلاقية؛ ثمّ، أيضاً، من جوانب انتهاك المؤسسات ذاتها التي ابتكرها «الغرب» للإيحاء بسيادة قانون ناظم للعلاقات الدولية، على غرار محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
وبهذا المعنى فإنّ الخطب التي سيلقيها أمثال بايدن وماكرون وريشي سوناك وأولاف شولتس خلال الاحتفال، لن تفلح في حجب ورطة واشنطن وباريس، صحبة لندن وبون والغالبية الساحقة من عواصم ديمقراطيات هذا «الغرب» مع مجرم حرب يدعى بنيامين نتنياهو؛ اضطرّ الرئيس الأمريكي نفسه إلى وضع استمراره في الحرب على غزّة تحت بند خدمة الأجندة السياسية الشخصية. ولن ينفع التهليل بالمحاربين القدماء، «أبطال» الإنزال أو آخر الناجين من مذابح الحلفاء والمحور على حدّ سواء، في التعتيم على دماء الضحايا المدنيين الذي يحرقهم القصف الإسرائيلي أحياء، في خيامهم أو في مدارس اللجوء.

كذلك لن تُطمس الدلالات المختلفة، الجيو ــ سياسية والدبلوماسية والقانونية والحقوقية، ثمّ الأخلاقية، خلف إقرار (وربما اضطرار) جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي إلى التصريح مؤخراً بأنّ بعض الدول الأوروبية حاولت «ترهيب» محكمة العدل الدولية بعد قرارها، المستند إلى اتفاقية منع الإبادة الجماعية، بدعوة دولة الاحتلال إلى وقف هجومها على رفح؛ وقال بوريل، بالحرف: «يتوجب علينا أن نختار بين مساندة المؤسسات الدولية وحكم القانون، وبين مساندة إسرائيل». أصداء هذا التصريح لن تتأخر في التبلور على نحو دراماتيكي أوروبي، مع قرار الحكومة الإسبانية الانضمام إلى دعوى جنوب أفريقيا ضدّ دولة الاحتلال في محكمة العدل الدولية؛ وهذه ليست دولة في أمريكا اللاتينية، على غرار نيكاراغوا وكولومبيا وتشيلي، بل هي أوروبية تقتفي أثر إرلندا، كما أنها عضو في الحلف الأطلسي أسوة ببلجيكا.
صحيح، بالطبع، أنّ مفهوم «الغرب» بعد الإنزال الشهير شهد العديد من التبدلات والتحولات التي كانت بمثابة أمر مفروغ منه، مثلما شهد تجاذبات واستقطابات متنافرة أكثر مما هي متكاملة أو متوافقة؛ وقد يُسجّل أنّ مثالها الأقصى، من حيث الدراما والمَسْرَحة على الأقلّ، كان قرار الرئيس الفرنسي الأسبق، الجنرال شارل ديغول الامتناع عن المشاركة في الذكرى الـ20، سنة 1964، معتبراً أنّ القسط المخصص لدور المقاومة الفرنسية في عمليات الإنزال ودحر الاحتلال النازي وتحرير فرنسا يتمّ تهميشه عن سابق قصد، لتلميع المآثر الأنغلو ــ أمريكية.
وكي تبقى هذه السطور عند شواطئ النورماندي حيث الاحتفالات، ولكن دون أن تفارق أطوار انقلابات «الغرب» من نفسه على نفسه أو على الفكرة الأمّ، الغائمة أصلاً؛ لم تكن المفارقة ضئيلة، إيديولوجياً هذه المرّة وليس سياسياً فقط، في أنّ فرنسوا ميتيران (أوّل رئيس اشتراكي في الجمهورية الخامسة) هو الذي استأنف المشاركة الفرنسية؛ إنْ لم يكن بسبب دهاء مخططاته لتفريغ تيارات اليمين الديغولي من احتكارات شتى ذات صلة بالجنرال ديغول نفسه، أو للتشويش على تحالفاتها واستطالاتها، فعلى الأقلّ لأنّ ذلك الرئيس الاشتراكي كان أطلسياً حتى النخاع، وربما منذ أن تولى 11 حقيبة وزارية خلال الجمهورية الرابعة، 1946ــ1958.
وصحيح، كذلك، أنّ ذلك «الغرب» إياه كان مادّة أولى، تجريبية وتطبيقية في آن معاً، لمبادرة أمريكية سوف تدخل التاريخ تحت اسم «خطة مارشال» نسبة إلى وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جورج مارشال؛ وسوف تصبح الهجمة الدبلوماسية الأضخم، والأكثر كلفة، في تاريخ الولايات المتحدة، لأنّ هدفها المعلَن لم يكن يقلّ عن انتشال أوروبا من أوزار الحرب العالمية الثانية. كان المشروع حصيلة معقدة عكفت على هندستها حفنة من أكبر أدمغة الإدارة الأمريكية آنذاك (مارشال نفسه، بمعونة دين أشيسن، جورج كينان، وليام كلايتون، وشارلز بوهلن)؛ وطمحت إلى قلب العالم رأساً على عقب، بكلفة 13 مليار دولار (أكثر من 90 مليار دولار بحسابات هذه الأيام). ذلك لأنها اقترحت عوناً أمريكياً هائلاً لأوروبا أربعينيات القرن الماضي، حين كانت القارّة العجوز مدمرة ومنهارة وممزقة، تتضور جوعاً إلى ما تحمله الشاحنات الأمريكية من موادّ إغاثة تبدأ من الدقيق والحليب، ولا تنتهي عند قلم الرصاص وكيس الإسمنت.
وقبل إخراج المشروع إلى النور، في شباط (فبراير) 1946، كان القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية في موسكو، جورج كينان، قد أرسل «البرقية الطويلة» التي سوف تدخل التاريخ بدورها، تحت توصيف التبشير الإيديولوجي الأبكر بدنوّ فجر الحرب الباردة المقبلة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ولسوف يُكمل كينان برقيته بمقال حمل توقيع
X، في مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، أفاد التالي: لا تستطيع الولايات المتحدة الوقوف مكتوفة الأيدي أمام ما سيجرّه خراب أوروبا الاقتصادي من خراب إيديولوجي، سيكون في صالح الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي، وسيقلب الانتصارات العسكرية الأمريكية إلى هزائم عقائدية للقِيَم الرأسمالية.
وبين كينان الأمريكي وبوريل الأوروبي ثمة 78 سنة من الاعتمالات والتحولات، من المدّ هنا أو الجزر هناك، ومن عقائد أوروبية شتى مقابل نظائر لها أمريكية متعددة بدورها؛ لخلالها م تتوقف فكرة «الغرب» عن تغذية سيرورة اهتراء ذاتية، منتظمة ومتعاقبة، تهادن واشنطن في معظم الحالات ولكن يحدث أن تتناطح معها في حالات أخرى أقلّ. وليس اجتماع أكثر من 25 رئيس دولة وحكومة، مع تغييب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ ثمّ استمرار تراجع الجيش الأوكراني أمام جحافل الغزو الروسية؛ واستشراس دولة الاحتلال في ارتكاب الجرائم ومجازر الحرب؛ سوى عناصر المشهد الأكثر تعبيراً عن تلك السيرورة، حيث تهترئ الفكرة مثلما تتقزّم مبادئها وتُنسف أركانها.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

 

 

 

صبحي حديدي

 كاتب وناقد سوري مقيم في فرنسا

يكتب اسبوعيا في جريدة (القدس العربي) لندن

(مقالات سابقة)

الرئيسية || من نحن || الاذاعة الكندية || الصحافة الكندية || اتصل بنا