فكر وفن

علي الوردي مفكر وعالم اجتماع مصطفى احمد

دكتوراه عام 1950 من جامعة أوستن - ولاية تكساس

 

رسم بالقهوة على قماش

بحكم دراسة علي الوردي في الولايات المتحدة وحصوله على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة أوستن في ولاية تكساس تأثر كثيرا بالفلاسفة الأمريكان المعاصرين مثل سكنر وسانتيانا وجون ديوي وآخرين وكان شديد التأثر بالفلسفة الوضعية، البراغماتية الأمريكية وفلاسفتها خاصة جون ديوي الفيلسوف والمربي البراغماتي مؤسس المدرسة الاختبارية في التعليم والذي وضع أسس مناهج التعليم في المدرسة الامريكية التي تؤكد على ربط النشاطات الطبيعية الفيزيائية والخبرة العملية وهو يعتبر ابو التربية التقدمية الحديثة. ومع تنوع حقل دراسات علي الوردي الى جانب علوم الاجتماع درس التاريخ علم النفس والباراسايكولوجي. عاد الوردي الى الوطن بعد اكمال دراسته مشبعا بالأفكار والدراسات والمشاريع واستطاع بكل موهبة وجدارة أن يطبق أفكاره التي تعلمها في الولايات المتحدة على الواقع العراقي الخاص..

لقد تنبأ علي الوردي بانفجار الوضع في العراق مثلما تنبه إلى جذور العصبيات التي تتحكم بشخصية الفرد العراقي التي هي واقع مجتمعي تمتد جذوره إلى القيم والأعراف الاجتماعية والعصبيات الطائفية والعشائرية والحزبية التي ما زالت بقاياها كامنة في نفوسنا. وكذلك إلى الاستبداد السلطوي، الزمني والتزامني، الذي شجع وما يزال يشجع على إعادة إنتاج الرواسب الاجتماعية والثقافية التقليدية القديمة وترسيخها من جديد، كما يحدث اليوم. فقبل أكثر من نصف قرن قال على الوردي بان على العراقيين ان يغيروا انفسهم ويصلحوا عقولهم قبل البدء بإصلاح المجتمع، لان التجارب القاسية التي مر بها الشعب العراقي علمته دروسا بليغة، فاذا لم يتعظ بها فسوف يصاب بتجارب اقسى منها. وعلى العراقيين ان يتعودوا على ممارسة الديمقراطية حتى تتيح لهم حرية الرأي والتفاهم والحوار دون أن تفرض فئة أو قبيلة أو طائفة رأيها بالقوة على الاخرين. كما قال: «بان الشعب العراقي منقسم على نفسه وفيه من الصراع القبلي والقومي والطائفي أكثر من أي بلد آخر. وليس هناك من طريق سوى تطبيق الديمقراطية، وعلى العراقيين ان يعتبروا من تجاربهم الماضية، ولو فلتت هذه الفرصة من ايدينا لضاعت منا امدا طويلا.

كما حلل أصول المهاجرين وتميزت مؤلفات وأبحاث الوردي بالصبغة الأنثربولوجية حيث ما أنفك يبحث عن الكثير في واقع مجتمع العراق والمجتمع البغدادي وعاداته وتقاليده المتحدرة من عهود الخلافة العباسية. وعن المناسبات الدينية وأهميتها في حياة الفرد البغدادي كالمولد النبوي وذكرى عاشوراء. وشن حملة شعواء ضد بعض رجال الدين خصوصا في كتابه وعاظ السلاطين ومهزلة العقل البشري وأتهمهم بالوقوف إلى جانب الحكام وتجاهل مصالح الأمة على حساب مصالحهم الضيقة متخاذلين عن واجبهم الديني. ودعا إلى نبذ الخلافات الطائفية بين الشيعة والسنة وطالب بالنظر إلى موضوع الخلاف بين الإمام علي ومعاوية على إنه خلاف تاريخي تجاوزه الزمن ويجب على المسلمين عوضا عن ذلك استلهام المواقف والآراء من هؤلاء القادة التاريخيين.

ذكر الدكتور علي الوردي كيف كان حكام الدول الإسلامية يستخدمون الوعاظ لتبرير ظلمهم. وذكر السبب الذي من ورائه انجر الوعاظ لمسايرة السلاطين

وهو حب النفس. ولقد ادعى الوعاظ أنهم يفعلون ما يفعلون لـمصلحة الإسلام والمسلمين.

واجهت افكار علي الوردي وآراءه الاجتماعية الجريئة انتقادات لاذعة وبخاصة كتابه «وعاظ السلاطين» الذين يعتمدون على منطق الوعظ والإرشاد

الأفلاطوني منطلقا من أن الطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ وحده، وأن الوعاظ أنفسهم لا يتبعون النصائح التي ينادون بها وهم يعيشون على موائد المترفين، كما اكد بانه ينتقد وعاظ الدين وليس الدين نفسه.

لقد استفاد الوردي من طروحات ابن خلدون كثيرا واعتبره منظراً حقيقياً ودارساً متمعناً للمجتمع العربي في تلك الفترة، وكان ابن خلدون موضوع اطروحته للدكتوراه. وكان الوردي أول من دعا إلى «علم اجتماع عربي» يدرس المجتمع العربي في ضوء خصوصياته الجغرافية والثقافية، انطلاقا من طروحات ابن خلدون. وركز الوردي على عامل البداوة وقيمها وأثرها في تكوين الشخصية العربية.

لم يثر كاتب أو مفكر عراقي مثلما أثاره علي الوردي من أفكار نقدية جريئة. وكان من البديهي أن يتعرض للنقد والتجريح والهجوم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار (حيث صدرت حول أفكاره خمسة عشرة كتابا ومئات المقالات)، حتى انطبق عليه المثل العراقي المعروف مثل السمك مأكول مذموم.

…………………

علي الوردي وسطور مختارة من ما قالها في شخصية الفرد العراقي:

زارنا من احد الاقطار العربية كاتب ذات يوم، وكان الوقت رمضان فعجب من شدة تمسكنا بمظاهر الصوم من ناحية ومن كثرة المفطرين بيننا من ناحية اخرى والمطاعم مفتوحة ومزدحمة في الصباح والظهيرة.. وربما لا نغالي اذا قلنا بان المسلم العراقي من اشد الناس غضبا على من يفطر علنا وهو من اكثرهم افطاراً.

وكذلك يمكن القول بان الفرد العراقي من اكثر الناس حبا للوطن وتحمسا لخدمة العلم بينما هو في الواقع يتملص ويبتعد من خدمة العلم اذا آن الأوان وان العراقي اقل الناس تمسكاً بالدين واكثرهم انغماساً في النزاع بين المذاهب الدينية، فتراه ملحداً من ناحية وطائفياً من ناحية أخرى.. انه بهذا ليس منافقا او مرائيا كما يحب البعض ان يسمه بل هو في الواقع ذو شخصيتين، وهو اذ يعمل باحدى شخصيتيه ينسى ما فعل آنفاً بالشخصية الاخرى، فهو اذ يدعو إلى المثل العليا او المبادئ السامية، انه مخلص فيما يقول، جاد فيما يدعي.

“أيها السادة لقد اشتهر العراقيون في صدر الأسلام انهم اهل شقاق ونفاق وقد حاول بعض المفكرين القدماء كالجاحظ مثلا, أن يفسّروا هذه الظاهرة الأجتماعية في العراق: أي لماذا كان العراقييون أهل شقاق ونفاق؟ ولماذا كانوا يشجعون بعض الزعماء على الثورة ثم يتخلون عنهم ساعة الضيق؟”

“ولعّلنا غير مخطئين إذا قلنا بأن هذه النزعة “الحلفائية” تنتشر في كل مجتمع في كل مجتمع ديني تسيطر فيه مبادئ الدين وتبث منه تعاليمه.”

“قلما نجد في هذه الدنيا مجتمعا تجزأت فيه العائلة مثل هذا التجزؤ البليغ. العراق مشهور بمقاهيه, وهي على كثرة عددها تغصّ بالرجال. ففي أصغر قرية كما في أكبر مدينة في العراق تجد المقاهي منتشرة انتشاراً فضيعاً. ولعل هذه الظاهرة سببها حجاب المرأة أولاً وتعالي الرجل عن المكوث معها في البيت ثانيًا. فقد نشأت عندنا قيم تجعل من المرأة جنسًا أقل من منزلة الرجل وأضعف عقلاً بحيث يشعر الرجل إزائها بالتعالي والكبرياء. فإذا علم الناس برجل يكثر من المكوث في بيته مع امرأته وأولاده اتهم بالتخنث, ولدينا من الأمثال السائرة عدد لا بأس به يدل على انتشار هذه القيم

الأجتماعية بيننا. ولعل هذه القيم قد جائتنا من البداوة, فالمجتمع البدوي كما قلنا مجتمع غزو وحرب, والرجل وحده من الذي يقوم بمهمة الحرب والنضال, أما المرأة فتعتبر مهمتها أخفض درجة من مهمة الرجل ولذا ينظر أليها بعين الأستصغار والمهانة. والبدو يطلقون على من يكثر من مجالسة النساء لقب “زير نساء” وهو لقب يصعب على البدوي تحمله. أنه إذن مضطر أن يقضي أغلب أوقاته في ديوان الشيخ ليتحدث هناك مع أقرانه أحاديث البطولة وأقاصيص الغزو والشجاعة.”

“أما المرأة فقد تعودت أن تقبع في بيتها وأن تعتقد بفضل ذلك وبدلالته على العفة والشرف, فهي قد لقنت منذ الطفولة على ان تكون محجبة لا تخرج من البيت الا عند الضرورة القصوى.”

وإننا لا نذيع سراً إذا قلنا بأن القيم التي تسود بين الأطفال في الأزقة كثيراً ما تشبه سنة الغابة، فهي قيم تدور حول القوة وحول استعمالها في كل سبيل. إن الأطفال في الزقاق، حيث لا يشرف عليهم مشرف من الكبار، تنمو فيهم قيم التفاخر بالقوة والتباهي بها وحب السيطرة وشدة العصبية المحلية.

نحن نعود أطفالنا منذ صغرهم على أن يتظاهروا بالوقار والرزانة أمام الكبار وبهذا تنشأ فيهم شخصيتان، شخصية للزقاق، وأخرى للظهور أمام الناس. فالأبوان في العراق كثيرا ما يؤنبان طفلهما إذا بدرت منه بوادر لا تليق بمعشر الكبار، فهو إذن يحاول أن يكون عاقلا خلوقا ساكنا إذا ذهب مع أبيه إلى المقهى، ولكنه لا يكاد يرجع إلى الزقاق حتى تراه قد خلع عنه ذلك القناع المصطنع الذي تقنع به في صحبة أبيه. فإذا كبر هذا الطفل، دأب على أن يقول ما لا يفعل، وأن يتحمس لما لا يعتقد به، وأن يعظ غيره بغير ما يعظ به نفسه.

“لقد لاحظت بعد دراسة طويلة ان شخصية الفرد العراقي فيها شيء من الازدواج واجد كثيراً من القرائن تؤيدني فيما اذهب إليه.. واني لا انكر بان ازدواج الشخصية ظاهرة عامة توجد باشكال مختلفة في كل انسان، ولكني اؤكد ان الازدواج فينا مركّز ومتغلغل في اعماق نفوسنا، ان العراقي اكثر من غيره هياما بالمثل العليا فيدعو اليها في خطاباته وكتاباته ولكنه في نفس الوقت من اكثر الناس انحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته..”

“ومن العجيب حقا أن نرى بين مثقفينا ورجال دين فينا من يكون ازدواج الشخصية فيه واضحا : فهو تارة يحدثك عن المثل العليا وينتقد من يخالفها ، وتارة يعتدي أو يهدد بالاعتداء لأي سبب يحفزه الى الغضب.. تافه أو جليل ، ضاربا عرض الحائط بتلك المثل التي تحمس لها قبل ساعة”

“يقال ان كثيرا من رؤساء المدن كانوا يحاولون ان يكونوا لصوصا يسطون على الدور ليلا او قتلة سفاكين ذلك يقال عنهم انهم رجال ليل فيجلبوا لانفسهم بذلك المكانة اللائقة في المجتمع واني اعرف شخصيا رئيسا من رؤساء العهد القديم كان غنيا وافر الغنى ومع ذلك كان يتنكر ليلا فيذهب الى السطو واعمال البطولة الليلية وبذا كان الناس يحترمونه ويخافونه. وعلى كل حال فان انتشار هذه القيم البدوية في المجتمع العراقي قد اضاف الى ازدواج الشخصية عنصرا جديدا فان هذا البطل الذي يسطو على الدور ليلا كان مضطرا ان يستجيب للمثل الدينية في النهار وقد تراه يلبس الوقار والفضيلة ويذهب الى المسجد متعبدا راجيا من الله ان يدخله الجنة ناسيا اعماله الليلية وما جنته يداه فيها كأن ما يعمله في الليل لا دخل له باعمال النهار”

“نجد ان هذا الأنفصال يؤدي في كثير من الأحيان إلى الأنحراف الجنسي فقد ثبت علميا بأن الأنحراف الجنسي في الغالب اكتسابي, يسببه انفصال المرأة عن الرجل كما هو الحال في الجنود الذين يظلون في ميدان الحرب مدة طويلة بعيدين عن النساء وكذلك في البحارة والسجناء وغيرهم ممن لا يتصل بالمرأة إلا قليلا.”

…………..

وفي العودة الى التناقضات التي اصبحت شخصية الفرد العراقي تعج بها يقدم (الأستاذ علي زامل حسين الساعدي) الأمثلة التالية من حياتنا اليومية

ويستخلصها بالنقاط التالية:

1- الفساد الاداري و المالي في دوائر الدولة مستشري بصورة علنية ومخزية بين الموظفين حتى وصل ما يجنيه الموظف العادي في بعض الدوائر مثل التقاعد أو العقاري على سبيل المثال من الرشاوى في اليوم الواحد ما يعادل راتب شهري كامل لرجل الامن اما بخصوص الموظفين الكبار الذين يتسنمون مواقع مهمة في الدولة فقد بلغت ثرواتهم حد الثراء الفاحش حتى بات بعضهم يعد من اغنى رجال العالم ولكن حين يؤذن المؤذن للصلاة او عند حصول مناسبة دينية ترى نفس الموظفين يقومون بأداء الصلاة أو الزيارة او الشعائر وكأنهم ملائكة منزلة من الله سبحانه وتعالى .

2- عندما تسال اي مواطن عراقي عن الطائفية تراه يرفض الطائفية بكل جوارحه ولو عكست السؤال او تلاعبت في مفرداته تراه يطالب بمسح مدن كاملة عن الخارطة العراقية .

3- وكذلك عندما تسأل اي مواطن عن رايه في مقاطعة المنتجات التي تصدر الينا من الدول الداعمة للارهاب تراه يؤيد الفكرة ويشد من عزيمة مطلقي الحملة وعندما يذهب هذا الفرد للتسوق يشتري تلك البضائع ويتناسى مقاطعته لها .

4- الطامة الكبرى حين ترى الشعب بأجمعه ساخطاً من اداء السياسيين ويطالب بالثورة ضدهم وفي نفس الوقت تراه يكن الولاء و الطاعة لقادة تلك الكتل السياسية ويعيد انتخاب نفس الوجوه مرة اخرى على الرغم من علمه بما سرقوه من قوت الشعب وفشلهم في اداء واجباتهم .

5- أغلب الشعب العراقي شعب يميل الى الالتزام الديني وتراه يحاول جاهداً تطبيق الحلال والابتعاد عن الحرام ولكن حين تتداخل الشرائع والقوانين الإلهية مع العرف القبلي و العشائري تراه يسير خلف قوانين وسنن العشيرة متناسياً القوانين الالهية وخير مثال على ذلك اطلاق النار في الهواء في تشييع الجنائز أو ما يسمى بالعراضات العشائرية على الرغم من كون الفعل محرم لما له من اثر سلبي وخطر على حياة المواطنين .

6- الفرد العراقي يؤمن بالقوة والبسالة والشجاعة والكبرياء وما إلى ذلك من صفات المحارب وفي نفس الوقت يؤمن بالكدح والصبر والخضوع والتباكي فهو يقتبس نوعين من القيم طبقة البدوي الغالب وطبقة الفلاح المغلوب .

  • فنان تشكيلي وصحفي عراقي
زر الذهاب إلى الأعلى