سياسة

الأحزاب اليمنية وتداعيات الحرب من كيانات سياسية بقانون إلى كائنات مسلحة برغبة الخارج! عبدالله مصلح   *

 

بعد تحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990، انتقلت الأحزاب السياسية اليمنية من مرحلة السرية إلى العلنية، ومن الحزب الواحد إلى التعددية السياسية، حيث أتاح دستور الوحدة العمل الحزبي، وتم إقرار قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية رقم (66) لعام 1991، وبموجبه تشكّلت عشرات الأحزاب السياسية.

ورغم أنّ عدد الأحزاب السياسية اليمنية يبلغ أكثر من أربعين حزبًا، فإن الأحزاب الحقيقية والفاعلة على أرض الميدان، لم تتجاوز خمسة أحزاب، منها ثلاثة أحزاب رئيسية، وهي: المؤتمر الشعبي العام، والتجمع اليمني للإصلاح، والحزب الاشتراكي اليمني، يضاف إليهم الحزب الوحدوي الشعبي الناصري، الذي حصل على ثلاثة مقاعد برلمانية في آخر انتخابات برلمانية عام 2003، ثم حزب البعث العربي الاشتراكي الذي حصل على مقعدين برلمانيين. وهناك أحزاب لم تحصل على أي مقعد، مثل: حزب الحق، وحزب اتحاد القوى الشعبية، وحزب التجمع الوحدوي اليمني.

معظم الأحزاب اليمنية لم تتشكل على أساس مدني بحت، فبعضها تشكلت على أسس طائفية مذهبية، وبعضها تشكلت على أسس أيديولوجية وفكرية مستوردة من خارج اليمن، وبعضها تشكّلت على أساس شعبوي. ومع ذلك فقد عمل الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح على تفريخ واستنساخ الأحزاب السياسية المناوئة له، كما حدث مع الحزب الناصري الذي تم تفريخه إلى ثلاثة أحزاب، هي: التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، والحزب الناصري الديمقراطي، وحزب التصحيح الناصري، وتم تفريخ البعث إلى حزبين، هما: حزب البعث العربي الاشتراكي، وحزب البعث العربي الاشتراكي القومي، وكذلك فعل صالح مع حزب اتحاد القوى الشعبية. كما تمكّن الرئيس صالح من إغراء عشرات القيادات الحزبية للانضمام إلى المؤتمر الحاكم بعد انشقاقهم عن أحزابهم، سواء من الاشتراكي أو الناصري أو البعث أو الإصلاح أو حزب الحق واتحاد القوى الشعبية وغيرها.

وكان علي عبدالله صالح هو المتحكم الأول في الأحزاب اليمنية من حيث تمويلها وقراراتها وتحديد تحركاتها ضمن مساحات محدودة، بل وصل الأمر إلى تحديد أسماء مرشحي الأحزاب في الانتخابات النيابية وتحديد الفائز منهم ولو كان خاسرًا، وتحديد الخاسر ولو كان فائزًا، حتى إنّ بعض المتابعين كانوا يطلقون على صالح لقب “رئيس الأحزاب”، حيث كانت عبارة عن تجمعات بشرية تمارس أدوارًا وظيفية مرسومة سلفًا من الحاكم المتكفل بتمويل قيادات الأحزاب ومن ثم تدجينها، وفقًا لمصالحه الخاصة.

ورغم سلبيات الأحزاب اليمنية والاختلالات التي كانت تعتور أنشطتها السياسية، فقد نجحت في خلق حراك سياسي ولو كان محدودًا أو متواضعًا، لكنه كان مستمرّ الحضور والبقاء، بخلاف ما هو سائد اليوم من جفاف حزبي وتصحر سياسي غير مسبوق، لم تشهده الأحزاب اليمنية خلال العقود الثلاثة الماضية.

منذ بدء مرحلة التعددية الحزبية، خاضت الأحزاب السياسية اليمنية انتخابات برلمانية ثلاث مرات، في عام 1993 و1997 و2003. وفي كل دورة انتخابية يتم تقليص حضور الأحزاب تدريجيًّا، ومن ثم إقصاؤها من المشاركة السياسية، ابتداء من الانتخابات البرلمانية عام 1993، حيث ارتكب حزبَا المؤتمر والإصلاح أول نكوص على اتفاقية الوحدة اليمنية التي نصت على منح الحزب الاشتراكي اليمني نصف المناصب القيادية العليا في الحكومة، التي تم تقاسمها بين أحزاب المؤتمر والإصلاح والاشتراكي، وكانت هذه إحدى أسباب اندلاع حرب صيف 1994، التي أدّت إلى هزيمة الحزب الاشتراكي، ومن ثم إقصاء كوادره من المناصب الحكومية الوسطية والدنيا، وهو ما زرع بذور النزعة الانفصالية لدى الكثير من أبناء المحافظات الجنوبية.

عقب انتخابات 1997، تفرد المؤتمر الشعبي العام بالسلطة، وخرج حزب التجمع اليمني للإصلاح من الائتلاف الثنائي الحاكم إلى المعارضة، والتحق بمجلس التنسيق الأعلى للمعارضة الذي تأسس في العام 1995، ثم تحول إلى تكتل اللقاء المشترك في العام 2003.

واستطاع اللقاء المشترك أن يشكّل تهديدًا حقيقيًّا للحزب الحاكم في الانتخابات الرئاسية عام 2006، التي فاز فيها مرشح اللقاء فيصل بن شملان، غير أن اللجنة العليا للانتخابات أعلنت فوز مرشح الحزب الحاكم علي عبدالله صالح، بحسب ما كشفه الجنرال علي محسن الأحمر في مقابلة تلفزيونية بعد انشقاقه عن نظام صالح. ولهذا كانت انتخابات عام 2006 آخر انتخابات تشهدها اليمن حتى اليوم، بل غدت الانتخابات -شبه الديمقراطية- في البلاد مجرد ذكريات بعيدة المنال.

انتفاضة 2011 وسقوط الجميع

في أواخر العام 2010، سعى حزب المؤتمر الحاكم إلى إجراء تغييرات جوهرية على قانون الانتخابات، مستغلًّا أغلبيته الكاسحة في البرلمان، فقررت أحزاب المعارضة اللجوء إلى الشارع، لتنفيذ عدة احتجاجات عارمة ضد تعديلات القانون الانتخابي. أعقب ذلك ببضعة أشهر، اندلاع ثورات الربيع العربي في مطلع العام 2011، فتحولت الاحتجاجات السياسية إلى انتفاضة شعبية في 11 فبراير 2011، وتنفيذ اعتصامات ثابتة في عددٍ من المحافظات اليمنية حتى تم إجبار الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، على تسليم السلطة لنائبه عبدربه منصور هادي بموجب مبادرة خليجية، وقّعت عليها جميعُ الأحزاب السياسية اليمنية الفاعلة.

وخاض الجميع غمار فترة سياسية انتقالية، تخلّلها انعقاد مؤتمر الحوار الوطني طيلة أكثر من عشرة أشهر، وبمشاركة كل القوى والمكونات والحركات السياسية، وكان هذا المؤتمر أهم حدث في التاريخ اليمني المعاصر يُجمع عليه اليمنيون، وتمخضت عنه مخرجات تُجسِّد في معظمها تطلعات أبناء الشعب اليمني، وكاد أن ينجح مؤتمر الحوار الوطني في إحداث انتقالة حقيقية باتجاه دولة يمنية حديثة، لولا أنه تم الالتفاف على نتائجه وإجهاضها وتجييرها لصالح قوى سياسية على حساب قوى أخرى.

وبدلًا من أن ينتهي مؤتمر الحوار بخارطة سلام دائم في البلاد، فقد انتهى بحرب جديدة، أفضت إلى تمكين جماعة أنصار الله (الحوثيين) من السيطرة على العاصمة صنعاء. وذهبت الأحزاب السياسية إلى تحميل الرئيس الأسبق صالح، مسؤوليةَ سقوط العاصمة صنعاء من خلال تحالفه مع جماعة الحوثيين المسلحة، فيما يؤكد أنصار صالح أن أحزاب اللقاء المشترك هي من بدأت تحالفها مع الحوثيين واجتذابهم إلى انتفاضة 11 فبراير 2011.

أفول الأحزاب وبزوغ سلطة الجماعات

بعد سقوط نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح، بدأ العد التنازلي للأحزاب السياسية التقليدية، وظهرت مكونات وحركات سياسية جديدة تمتلك السلاح والدعم الإقليمي. وتمكّنت من فرض سلطتها كأمر واقع، مثل جماعة أنصار الله (الحوثيين) شمال البلاد، والمجلس الانتقالي الجنوبي في المحافظات الجنوبية. فيما انقسمت معظم الأحزاب السياسية ما بين مؤيد للحكومة الشرعية الهشة، وسلطة الحوثيين الأحادية.

وكشفت الحرب عن سوأة الأحزاب، وسقطت ورقة التوت التي كانت تتدثر بها الأحزاب طيلة العقود الماضية؛ حيث استحالت بعض الأحزاب إلى جماعات مسلحة تفرض سلطتها بالقوة على مساحات ضيقة من المناطق اليمنية.

وثمة أحزاب تعرضت للانقسام الحقيقي أو حتى التكتيكي في ولائها بين سلطتي الحوثيين والشرعية، مثل المؤتمر والاشتراكي والناصري والبعث واتحاد القوى الشعبية. وكل فصيل من هذه الأحزاب المنقسمة يدّعي المشروعية لنفسه وينفيها عن الفصيل الآخر، فيما الحقيقة أن معظم الأحزاب اليمنية مجرد أسماء دون مسميات حقيقية على أرض الواقع.

ويمكن القول إنّ الأحزاب انفصلت عن قواعدها وفقدت ثقة الناس بها، بل باتت متهمة بصناعة الأزمات ومتورطة في إشعال الحروب العبثية وتجزئة البلاد، والارتهان للخارج، ولم تعد تمتلك حضورًا فعليًّا ولا حتى اعتباريًّا رمزيًّا، وباتت تعيش في موت سياسي سريري. وبدلًا من ولاء اليمنيين للأحزاب السياسية، نشأت ولاءات عابرة للحدود الوطنية باتجاه السعودية أو الإمارات أو إيران أو تركيا وغيرها.

من تجربة المشترك إلى تكتل التحالف

منذ تفكك تكتل اللقاء المشترك عام 2014، فشلت كل المحاولات الرامية لإنشاء تكتل سياسي جديد. ففي إبريل 2019، تم الإعلان عن إنشاء “التحالف الوطني للأحزاب السياسية” برئاسة رشاد العليمي قبل أن يتم تصعيده إلى منصب رئيس مجلس القيادة الرئاسي، ولم يُعرف عن هذا التحالف الحزبي أنه اضطلع بأي مهمة سياسية أو اتخذ أي موقف يُذكر سوى إصدار بيانات مدائحية للتحالف السعودي الإماراتي.

وفي الخامس من شهر نوفمبر الحالي، تم منح التحالف الحزبي السابق شهادة وفاة، والإعلان عن تشكيل تكتل جديد يسمى “التكتل الوطني للأحزاب والمكونات السياسية”، يضم 23 حزبًا ومكونًا سياسيًّا، هي: المؤتمر الشعبي العام، التجمع اليمني للإصلاح، الحزب الاشتراكي اليمني، التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، المجلس الانتقالي الجنوبي، المكتب السياسي للمقاومة الوطنية، حزب اتحاد الرشاد اليمني، حركة النهضة للتغيير السلمي، التجمع الوحدوي اليمني، حزب البعث العربي الاشتراكي، اتحاد القوى الشعبية، حزب العدالة والبناء، حزب التضامن الوطني، حزب السلم والتنمية، مؤتمر حضرموت الجامع، الائتلاف الوطني الجنوبي، الحزب الجمهوري، حزب جبهة التحرير، مجلس حضرموت الوطني، حزب البعث الاشتراكي القومي، حزب الشعب الديمقراطي (حشد)، مجلس شبوة الوطني، الحراك الثوري المشارك في مؤتمر الحوار الوطني، المجلس الثوري للحراك السلمي.

وقبل يوم من إعلان هذا التكتل، تعرض للإجهاض والوأد المبكر، حيث أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي ومؤتمر حضرموت الجامع، انسحابهما من هذا التكتل الموءود. ومن خلال النظر إلى هذه الأحزاب يتبين أن بعض هذه الأحزاب تعرضت للانقسام في ولائها بين سلطتي الشرعية والحوثيين، وبعض هذه الأحزاب استحالت إلى جماعات مسلحة تنتهج العمل العسكري بدلًا من العمل السياسي. وبعض تلك الأحزاب خرجت عن الخدمة السياسية منذ زمن سحيق، وتحوّلت من كيانات سياسية معتبرة إلى مجرد كائنات سياسية طفيلية تعتاش على حساب أسماء أحزابها البائدة.

وحتى الأحزاب التي ما زالت تحتفظ بقوامها وقوائمها ومقوماتها، تربض عليها قيادات شائخة ومتكلسة وآسنة لا تقوى على اجتراح أي منجز أو فعل أو موقف سياسي يذكر؛ لأنها دأبت طيلة عقود ماضية على ممارسة أدوار وظيفية مرسومة سلفًا، دون تجاوز الخطوط الرمادية فضلًا عن الخطوط الحمراء.

وإذا كانت هذه الأحزاب عاجزة حتى عن إدارة ذاتها وخلق ائتلاف داخلي بين قياداتها وقواعدها، فكيف لها أن تنجح في إنشاء تكتل سياسي حقيقي؟ وأبسط دليل على هشاشة هذه الأحزاب والمكونات، هو تدخل السفير الأمريكي لدى اليمن (ستيفن فاجن)، لممارسة الضغط على هذه الأحزاب وإجبارها على محاولة لملمة شتاتها والتوقيع على محضر إنشاء تكتل سياسي صوري ومؤقت برئاسة أحمد عبيد بن دغر.

السفير الأمريكي لدى اليمن هو عراب هذا التكتل بامتياز، فكرةً وإعدادًا وتمويلًا، وإشرافًا مباشرًا من خلال حضوره الاجتماعات التحضيرية وفعالية إشهار التكتل. وأعلن السفير الأمريكي صراحة أنّ بلاده قدّمت الدعم للأحزاب اليمنية من خلال المعهد الديمقراطي الأمريكي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، بهدف توحيد جهود هذه الأحزاب.

ثمة من يرى أنّ الإدارة الأمريكية تسعى من خلال دعم هذا التكتل الجديد إلى معاقبة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وتقويض سيطرتهم على مدينة وميناء الحديدة، وربما إنهاء سلطتهم في صنعاء؛ وذلك جراء استمرار هجماتهم على السفن التجارية في البحرين الأحمر والعربي إسنادًا لفلسطين ولبنان في حربهما ضد إسرائيل. لكن هناك من يرى خلاف ذلك، ويؤكد أن الولايات المتحدة أرادت من تشكيل هذا التكتل أن يضطلع بمهمة المفاوضات النهائية مع سلطة الحوثيين بصنعاء.

وثمة رأي ثالث، يذهب إلى أن الهدف من وراء هذا التكتل هو تهيئة القيادي المؤتمري الجنوبي، أحمد عبيد بن دغر، لمنصب الرئيس القادم، كما جرى الأمر مع رشاد العليمي عقب رئاسته للتحالف الوطني للأحزاب السياسية.

الهويات المذهبية والطائفية والمناطقية

في الوقت الراهن، هناك أربع قوى أمر واقع تُحكِم سيطرتها على البلاد، وهي جماعة أنصار الله في شمال البلاد، والمجلس الانتقالي في المحافظات الجنوبية، ومؤتمر طارق صالح في الساحل الغربي، وحزب الإصلاح في مأرب وتعز. وجميع هذه القوى الأربع ترفض أيَّ صوت مناوئ لها، حتى لو كان من داخلها، فكيف لها أن تقبل بالصوت الآخر، فضلًا عن قبولها بالتعددية السياسية.

ختامًا، صفوة القول أنه عندما يضعف دور الأحزاب السياسية، يبرز ويتعاظم دور الهويات المذهبية والطائفية والمناطقية والجهوية وغيرها. ولن يتعافى اليمن من هذه الأوبئة والفيروسات إلا حين تغدو الأحزاب مؤسسات تنظيمية وسياسية قوية، يتمكن فيها جماهير الحزب من المشاركة الحقيقية في صناعة القرار الحزبي، وفي فرض التغيير والتجديد في المناصب القيادية الحزبية.

وفي ظل الأوضاع الراهنة، يصعب على الأحزاب التقليدية استعادة عافيتها؛ نظرًا لنتائج الحرب التي تحوّلت من حرب سياسية إلى صراع يتخذ طابعًا مذهبيًّا ومناطقيًّا معقدًا. وقد يكون البديل الأنسب لغياب الأحزاب والتنظيمات السياسية هي التنظيمات المدنية المتمثلة بالكيانات النقابية والمهنية.

  • صحفي يمني (موقع خيوط )
زر الذهاب إلى الأعلى